فصل: تفسير الآيات (113- 120):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مدارك التنزيل وحقائق التأويل بـ «تفسير النسفي» (نسخة منقحة).



.تفسير الآيات (113- 120):

{وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (114) وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115) وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (116) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117) وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آَيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ (119) وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (120)}
{وَقَالَتِ اليهود لَيْسَتِ النصارى على شَئ وَقَالَتِ النصارى لَيْسَتِ اليهود على شَئ} أي على شيء يصح ويعتد به. والواو في {وَهُمْ يَتْلُونَ الكتاب} للحال والكتاب للجنس أي قالوا ذلك وحالهم أنهم من أهل العلم والتلاوة للكتب، وحق من حمل التوراة والإنجيل وآمن به ألا يكفر بالباقي لأن كل واحد من الكتابين مصدق للآخر. {كذلك} مثل ذلك القول الذي سمعت به {قَالَ الذين لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ} أي الجهلة الذين لا علم عندهم ولا كتاب كعبدة الأصنام والمعطلة، قالوا لأهل كل دين ليسوا على شيء، وهذا توبيخ عظيم لهم حيث نظموا أنفسهم مع علمهم في سلك من لا يعلم {فالله يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} أي بين اليهود والنصارى بما يقسم لكل فريق منهم من العقاب اللائق به.
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مساجد الله أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسمه} موضع {من} رفع على الابتداء وهو استفهام و{أظلم} خبره والمعنى: أي أحد أظلم؟ و{أن يذكر} ثاني مفعولي {منع} لأنك تقول منعته كذا {وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بالأيات} [الإسراء: 59]. {وَمَا مَنَعَ الناس أَن يُؤْمِنُواْ} [الكهف: 55] [الإسراء: 94]. ويجوز أن يحذف حرف الجر مع {أن} أي من أن يذكر وأن تنصبه مفعولاً له بمعنى منعها كراهة أن يذكر وهو حكم عام لجنس مساجد الله وأن مانعها من ذكر الله مفرط في الظلم. والسبب فيه طرح النصارى في بيت المقدس الأذى، ومنعهم الناس أن يصلوا فيه، أو منع المشركين رسول الله أن يدخل المسجد الحرام عام الحديبية. وإنما قيل مساجد الله وكان المنع على مسجد واحد وهو بيت المقدس أو المسجد الحرام لأن الحكم ورد عاماً وإن كان السبب خاصاً كقوله تعالى: {وَيْلٌ لّكُلّ هُمَزَةٍ} [الهمزة: 1] والمنزول فيه الأخنس بن شريق. {وسعى في خَرَابِهَا} بانقطاع الذكر والمراد ب {من} العموم كما أريد العموم بمساجد الله. {أولئك} المانعون {مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا} أي ما كان ينبغي لهم أن يدخلوا مساجد الله {إِلاَّ خَائِفِينَ} حال من الضمير في {يدخلوها} أي على حال التهيب وارتعاد الفرائص من المؤمنين أن يبطشوا بهم فضلاً أن يستولوا عليها ويلوها ويمنعوا المؤمنين منها. والمعنى: ما كان الحق إلا ذلك لولا ظلم الكفرة وعتوهم. رُوي أنه لا يدخل بيت المقدس أحد من النصارى إلا متنكراً خيفة أن يقتل. وقال قتادة: لا يوجد نصراني في بيت المقدس إلا بولغ ضرباً. ونادى رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا لا يحجن بعد هذا العام مشرك» وقيل: معناه النهي عن تمكينهم من الدخول والتخلية بينهم وبينه كقوله تعالى:
{وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ الله} [الأحزاب: 53] {لَهُمْ في الدنيا خِزْىٌ} قتل وسبي للحربي وذلة بضرب الجزية للذمي {وَلَهُمْ في الأخرة عَذَابٌ عَظِيمٌ} أي النار.
{وَلِلَّهِ المشرق والمغرب} أي بلاد المشرق والمغرب كلها له وهو مالكها ومتوليها {فَأَيْنَمَا} شرط {تَوَلُّوْاْ} مجزوم به أي ففي أي مكان فعلتم التولية يعني تولية وجوهكم شطر القبلة بدليل قوله تعالى: {فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144]، والجواب {فَثَمَّ وَجْهُ الله} أي جهته التي أمر بها ورضيها. والمعنى أنكم إذا منعتم أن تصلوا في المسجد الحرام أو في بيت المقدس فقد جعلت لكم الأرض مسجداً فصلوا في أي بقعة شئتم من بقاعها وافعلوا التولية فيها، فإن التولية ممكنة في كل مكان. {إِنَّ الله واسع عَلِيمٌ} أي هو واسع الرحمة يريد التوسعة على عباده وهو عليم بمصالحهم. وعن ابن عمر رضي الله عنهما: نزلت في صلاة المسافر على الراحلة أينما توجهت. وقيل: عميت القبلة على قوم فصلوا إلى أنحاء مختلفة، فلما أصبحوا تبينوا خطأهم فعذروا. هو حجة على الشافعي رحمه الله فيما إذا استدبر. وقيل: فأينما تولوا للدعاء والذكر. {وَقَالُواْ اتخذ الله وَلَدًا} يريد الذين قالوا المسيح ابن الله وعزيز ابن الله. {قالوا}: شامي فإثبات الواو باعتبار أنه قصة معطوفة على ما قبلها، وحذفه باعتبار أنه استئناف قصة أخرى. {سبحانه} تنزيه له عن ذلك وتبعيد {بَل لَّهُ مَا فِي السماوات والأرض} أي هو خالقه ومالكه ومن جملته المسيح وعزيز والولادة تنافي الملك. {كُلٌّ لَّهُ قانتون} منقادون لا يمتنع شيء منهم على تكوينه وتقديره. والتنوين في {كل} عوض عن المضاف إليه أي كل ما في السموات والأرض، أو كل من جعلوه لله ولداً له قانتون مطيعون عابدون مقرون بالربوبية منكرون لما أضافوا إليهم. وجاء ب {ما} الذي لغير أولي العلم مع قوله {قانتون} كقوله (سبحان ما سخركن لنا) {بَدِيعُ السماوات والأرض} أي مخترعهما ومبدعهما لا على مثال سبق. وكل من فعل ما لم يسبق إليه يقال له أبدعت ولهذا قيل لمن خالف السنة والجماعة مبتدع لأنه يأتي في دين الإسلام ما لم يسبقه إليه الصحابة والتابعون رضي الله عنهم. {وَإِذَا قضى أَمْرًا} أي حكم أو قدر {فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} هو من (كان) التامة أي أحدث فيحدث وهذا مجاز عن سرعة التكوين وتمثيل ولا قول ثُمَّ. وإنما المعنى أن ما قضاه من الأمور وأراد كونه فإنما يتكون، ويدخل تحت الوجود من غير امتناع ولا توقف كما أن المأمور المطيع الذي يؤمر فيمتثل لا يتوقف ولا يمتنع ولا يكون منه إباء.
وأكد بهذا استبعاد الولادة لأن من كان بهذه الصفة من القدرة كانت صفاته مباينة لصفات الأجسام فأنى يتصور التوالد ثمّ. والوجه الرفع في {فيكون} وهو قراءة العامة على الاستئناف أي فهو يكون، أو على العطف على {يقول}. ونصبه ابن عامر على لفظ {كن} لأنه أمر وجواب الأمر بالفاء نصب. وقلنا: إن {كن} ليس بأمر حقيقة إذ لا فرق بين أن يقال وإذ قضى أمرا فإنما يكونه فيكون وبين أن يقال فإنما يقول له كن فيكون، وإذا كان كذلك فلا معنى للنصب. وهذا لأنه لو كان أمراً فإما أن يخاطب به الموجود والموجود لا يخاطب ب {كن} أو المعدوم والمعدوم لا يخاطب.
{وَقَالَ الذين لاَ يَعْلَمُونَ} من المشركين أو من أهل الكتاب، ونفى عنهم العلم لأنهم لم يعملوا به {لَوْلاَ يُكَلّمُنَا الله} هلا يكلمنا كما يكلم الملائكة وكلم موسى استكباراً منهم وعتواً {أَوْ تَأْتِينَآ ءَايَةٌ} جحوداً لأن يكون ما أتاهم من آيات الله آيات واستهانه بها {كذلك قَالَ الذين مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تشابهت قُلُوبُهُمْ} أي قلوب هؤلاء ومن قبلهم في العمى {قَدْ بَيَّنَّا الآيات لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} أي لقوم ينصفون فيوقنون أنها آيات يجب الاعتراف بها والإذعان لها والاكتفاء بها عن غيرها {إِنَّا أرسلناك بالحق بَشِيرًا} للمؤمنين بالثواب {وَنَذِيرًا} للكافرين بالعقاب {وَلاَ تُسْئَلُ عَنْ أصحاب الجحيم} ولا نسألك عنهم ما لهم لم يؤمنوا بعد أن بلّغت وبلغت جهدك في دعوتهم وهو حال ك {نذيراً} وبشيراً و{بالحق} أي وغير مسؤول أو مستأنف. قراءة نافع و{لا تسأل} على النهي ومعناه ما وقع فيه الكفار من العذاب كما تقول: كيف فلان سائلاً عن الواقع في بلية فيقال لك: لا تسأل عنه. وقيل: نهى الله نبيه عن السؤال عن أحوال الكفرة حين قال ليت شعري ما فعل أبواي.
{وَلَن ترضى عَنكَ اليهود وَلاَ النصارى حتى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} كأنهم قالوا لن نرضى عنك وإن أبلغت في طلب رضانا حتى تتبع ملتنا إقناطاً منهم لرسول الله عن دخولهم في الإسلام، فذكر الله عز وجل كلامهم. {قُلْ إِنَّ هُدَى الله} الذي رضي لعباده {هُوَ الهدى} أي الإسلام. وهو الهدى كله ليس وراءه هدى والذي تدعون إلى اتباعه ما هو هدى إنما هو هوى. ألا ترى إلى قوله {وَلَئِنِ اتبعت أَهْوَاءهُم} أي أقوالهم التي هي أهواء وبدع {بَعْدَ الذي جَاءكَ مِنَ العلم} أي من العلم بأن دين الله هو الإسلام أو من الدين المعلوم صحته بالبراهين الواضحة والحجج اللائحة {مالك مِنَ الله} من عذاب الله {مِن وَلِيّ وَلاَ نَصِيرٍ} ناصر.

.تفسير الآيات (121- 124):

{الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (121) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (122) وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (123) وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)}
{الذين} مبتدأ {ءاتيناهم الكتاب} صلته وهم مؤمنو أهل الكتاب وهو التوراة والإنجيل، أو أصحاب النبي عليه السلام والكتاب القرآن. {يَتْلُونَهُ} حال مقدرة من (هم) لأنهم لم يكونوا تالين له وقت إيتائه، ونصب على المصدر. {حَقَّ تِلاَوَتِهِ} أي يقرأونه حق قراءته في الترتيل وأداء الحروف والتدبر والتفكر، أو يعملون به ويؤمنون بما فيه مضمونه ولا يغيرون ما فيه من نعت النبي صلى الله عليه وسلم. {أولئك} مبتدأ خبره {يُؤْمِنُونَ بِهِ} والجملة خبر {الذين} ويجوز أن يكون {يتلونه} خبراً، والجملة خبر آخر. {وَمن يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الخاسرون} حيث اشتروا الضلالة بالهدى {يابنى إسراءيل اذكروا نِعْمَتِيَ التي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} أي أنعمتها عليكم {وَأَنّى فَضَّلْتُكُمْ عَلَى العالمين} وتفضيلي إياكم على عالمي زمانكم {واتقوا يَوْمًا لاَّ تَجْزِى نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شفاعة وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ} {هم} رفع بالابتداء والخبر {ينصرون}. والجمل الأربع وصف ل {يوماً} أي واتقوا يوماً لا تجزى فيه ولا يقبل فيه ولا تنفعها فيه ولا هم ينصرون فيه. وتكرير هاتين الآيتين لتكرار المعاصي منهم، وختم قصة بني إسرائيل بما بدأ به.
{وَإِذْ} أي واذكر إذ {ابتلى إبراهيم رَبُّهُ بكلمات} اختبره بأوامر ونواه. والاختبار منا لظهور ما لم نعلم، ومن الله لإظهار ما قد علم، وعاقبة الابتلاء ظهور الأمر الخفي في الشاهد والغائب جميعاً فلذا تجوز إضافته إلى الله تعالى. وقيل: اختبار الله عبده مجاز عن تمكينه من اختيار أحد الأمرين ما يريد الله تعالى وما يشتهيه العبد كأنه يمتحنه ما يكون منه حتى يجازيه على حسب ذلك. وقرأ أبو حنيفة رضي الله عنه: {إبراهيمُ ربه}، يرفع إبراهيم وهي قراءة ابن عباس رضي الله عنهما، أي دعاه بكلمات من الدعاء فعل المختبر هل يجيبه إليهن أم لا. {فَأَتَمَّهُنَّ} أي قام بهن حق القيام وأدّاهن أحسن التأدية من غير تفريط وتوانٍ ونحوه {وإبراهيم الذي وفى} [النجم: 37] ومعناه في قراءة أبي حنيفة رحمه الله فأعطاه ما طلبه لم ينقص منه شيئاً. والكلمات على هذا ما سأل إبراهيم ربه في قوله: {رَبِّ اجعل هذا بَلَدًا آمِنًا} [البقرة: 126]. {واجعلنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} [البقرة: 128]. {وابعث فِيهِمْ رَسُولاً مّنْهُمْ} [البقرة: 129]. {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا} [البقرة: 127]. والكلمات على القراءة المشهورة خمس في الرأس: الفرق وقص الشارب والسواك والمضمضة والاستنشاق. وخمس في الجسد: الختان وتقليم الأظفار ونتف الإبط وحلق العانة والاستنجاء. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: هي ثلاثون سهماً من الشرائع: عشر في براءة {التائبون} [الآية: 12]، الآية وعشر في الأحزاب {إِنَّ المسلمين والمسلمات} [الأحزاب: 35] الآية، وعشر في (المؤمنين) و(المعارج) إلى قوله {يُحَافِظُونَ} وقيل: هي مناسك الحج {قَالَ إِنّى جاعلك لِلنَّاسِ إِمَامًا} هو اسم من يؤتم به أي يأتمون بك في دينهم.
{قَالَ وَمِن ذُرّيَّتِى} أي واجعل من ذريتي إماماً يقتدى به. ذرية الرجل أولاده ذكورهم وإناثهم فيه سواء. فعيلة من الذرء أي الخلق فأبدلت الهمزة ياء. {قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين} بسكون الياء: حمزة وحفص أي لا تصيب الإمامة أهل الظلم من ولدك أي أهل الكفر. أخبر أن إمامة المسلمين لا تثبت لأهل الكفر وأن من أولاده المسلمين والكافرين قال الله تعالى: {وباركنا عَلَيْهِ وعلى إسحاق وَمِن ذُرّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وظالم لّنَفْسِهِ مُبِينٌ} [الصافات: 113]. والمحسن المؤمن والظالم الكافر. قالت المعتزلة: هذا دليل على أن الفاسق ليس بأهل للإمامة قالوا: وكيف يجوز نصب الظالم للإمامة والإمام إنما هو لكف الظلمة فإذا نصب من كان ظالماً في نفسه فقد جاء المثل السائر (من استرعى الذئب ظلم). ولكنا نقول: المراد بالظالم الكافر هنا إذ هو الظالم المطلق. وقيل: إنه سأل أن يكون ولده نبياً كما كان هو فأخبر أن الظالم لا يكون نبيا.

.تفسير الآيات (125- 137):

{وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آَمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126) وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129) وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131) وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132) أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آَبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (134) وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135) قُولُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136) فَإِنْ آَمَنُوا بِمِثْلِ مَا آَمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137)}
{وَإِذْ جَعَلْنَا البيت} أي الكعبة وهو اسم غالب لها كالنجم للثريا {مَثَابَةً لّلنَّاسِ} مباءة ومرجعاً للحجاج والعمار يتفرقون عنه ثم يثوبون إليه {وَأَمْناً} وموضع أمن فإن الجاني يأوي إليه فلا يتعرض له حتى يخرج وهو دليل لنا في الملتجئ إلى الحرم. {واتخذوا مِن مَّقَامِ إبراهيم مُصَلًّى} وقلنا أتخذوا منه موضع صلاة تصلون فيه. وعنه عليه السلام أنه أخذ بيد عمر فقال: «هذا مقام إبراهيم» فقال عمر أفلا نتخذه مصلى فقال عليه السلام: «لم أومر بذلك» فلم تغب الشمس حتى نزلت. وقيل: مصلى مدعى، ومقام إبراهيم الحجر الذي فيه أثر قدميه. وقيل: الحرم كله مقام إبراهيم. {واتخذوا} شامي ونافع بلفظ الماضي عطفاً على {جعلنا} أي واتخذ الناس من مكان إبراهيم الذي وسم به لاهتمامه به وإسكان ذريته عنده قبلة يصلون إليها {وَعَهِدْنَا إلى إبراهيم وإسماعيل} أمرناهما {أَن طَهّرَا بَيْتِىَ} بفتح الياء: مدني وحفص أي بأن طهرا أو أي طهرا والمعنى طهراه من الأوثان والخبائث والأنجاس كلها {لِلطَّائِفِينَ} للدائرين حوله {والعاكفين} المجاورين الذين عكفوا عنده أي أقاموا لا يبرحون أو المعتكفين. وقيل: للطائفين للنزّاع إليه من البلاد والعاكفين والمقيمين من أهل مكة. {والركع السجود} والمصلحين جمعاً راكع وساجد.
{وَإِذْ قَالَ إبراهيم رَبِ اجعل هذا} أي اجعل هذا البلد أو هذا المكان {بَلَدًا آمِنًا} ذا أمن كعيشة راضية أو آمناً من فيه كقولك (ليل نائم) فهذا مفعول أول. و{بلداً} مفعول ثانٍ و{آمناً} صفة له. {وارزق أَهْلَهُ مِنَ الثمرات} لأنه لم يكن لهم ثمرة. ثم أبدل {مَنْ ءَامَنَ مِنْهُم بالله واليوم الأخر} من أهله بدل البعض من الكل أي وارزق المؤمنين من أهله خاصة. قاس الرزق على الإمامة فخص المؤمنين به. قال الله تعالى جواباً له {وَمَن كَفَرَ} أي وارزق من كفر {فَأُمَتّعُهُ قَلِيلاً} تمتيعاً قليلاً أو زماناً قليلاً إلى حين أجله. {فأمتعه}: شامي {ثُمَّ أَضْطَرُّهُ} ألجئه {إلى عَذَابِ النار وَبِئْسَ المصير} المرجع الذي يصير إليه النار فالمخصوص بالذم محذوف.
{وَإِذْ يَرْفَعُ} حكاية حال ماضية {إبراهيم القواعد} هي جمع قاعدة وهي الأساس والأصل لما فوقه وهي صفة غالبة ومعناها الثابتة. ورفع الأساس البناء عليها لأنها إذا بنى عليها نقلت عن هيئة الانخفاض إلى هيئة الارتفاع وتطاولت بعد التقاصر. {مِنَ البيت} بيت الله وهو الكعبة {وإسماعيل} هو عطف على إبراهيم وكان ابراهيم يبني وإسماعيل يناوله الحجارة {رَبَّنَا} أي يقولان ربنا. وهذا الفعل في محل النصب على الحال وقد أظهره عبد الله في قراءته ومعناه يرفعانها قائلين ربنا {تَقَبَّلْ مِنَّا} تقربنا إليك ببناء هذا البيت {إِنَّكَ أَنتَ السميع} لدعائنا {العليم} بضمائرنا ونياتنا.
وفي إبهام القواعد وتبيينها بعد الإبهام تفخيم لشأن المبين. {رَبَّنَا واجعلنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} مخلصين لك أوجهنا من قوله {أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ} [البقرة: 112] أو مستسلمين يقال أسلم له واستسلم إذا خضع وأذعن، والمعنى زدنا إخلاصاً وإذعاناً لك. {وَمِن ذُرّيَّتِنَا} واجعل من ذريتنا {أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ} و{من} للتبعيض أو للتبيين. وقيل: أراد بالأمة أمة محمد عليه السلام وإنما خصا بالدعاء ذريتهما لأنهم أولى بالشفقة كقوله تعالى: {قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} [التحريم: 6]. {وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا} منقول من (رأى) بمعنى أبصر أو عرف ولذا لم يتجاوز مفعولين أي وبصرنا متعبداتنا في الحج أو عرفناها. وواحد المناسك منسك بفتح السين وكسرها وهو المتعبد ولهذا قيل للعابد ناسك. {وأرنا}: مكي قاسه على فخذ في فخذ، وأبو عمرو يشم الكسرة. {وَتُبْ عَلَيْنَا} ما فرط منا من التقصير أو استتاباً لذريتهما {إِنَّكَ أَنتَ التواب الرحيم * رَبَّنَا وابعث فِيهِمْ} في الأمة المسلمة {رَسُولاً مِّنْهُمْ} من أنفسهم فبعث الله فيهم محمداً عليه السلام، قال عليه السلام: «أنا دعوة أبي إبراهيم وبشرى عيسى ورؤيا أمي» {يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آياتك} يقرأ عليهم ويبلغهم ما توحي إليه من دلائل وحدانيتك وصدق أنبيائك ورسلك {وَيُعَلّمُهُمُ الكتاب} القرآن {والحكمة} السنة وفهم القرآن {وَيُزَكّيهِمْ} ويطهرهم من الشرك وسائر الأرجاس {إِنَّكَ أَنتَ العزيز} الغالب الذي لا يغلب {الحكيم} فيما أوليت.
{وَمَن يَرْغَبُ عَن مِلَّةِ إبراهيم} استفهام بمعنى الجحد وإنكار أن يكون في العقلاء من يرغب عن الحق الواضح الذي هو ملة إبراهيم. والملة السنة والطريقة كذا عن الزجاج {إِلاَّ مَنْ} في محل الرفع على البدل من الضمير في {يرغب}، وصح البدل لأن من يرغب غير موجب كقولك (هل جاءك أحد إلا زيد) والمعنى وما يرغب عن ملة إبراهيم إلا من {سَفِهَ نَفْسَهُ} أي جهل نفسه أي لم يفكر في نفسه. فوضع سفه موضع جهل وعدي كما عدي، أو معناه سفه في نفسه فحذف في كما حذف (من) في قوله {واختار موسى قَوْمَهُ} [الأعراف: 155] أي من قومه، وعلى في قوله: {وَلا تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النكاح} [البقرة: 235]. أي على عقدة النكاح والوجهان عن الزجاج. وقال الفراء: هو منصوب على التمييز وهو ضعيف لكونه معرفة. {وَلَقَدِ اصطفيناه فِي الدنيا وَإِنَّهُ في الآخرة لَمِنَ الصالحين} بيان لخطأ رأي من يرغب عن ملته لأن من جمع كرامة الدارين لم يكن أحد أولى بالرغبة من طريقته منه {إِذْ قَالَ} ظرف لاصطفيناه، أو انتصب بإضمار (اذكر) كأنه قيل: اذكر ذلك الوقت لتعلم أنه المصطفى الصالح الذي لا يرغب عن ملة مثله.
{لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ} أذعن أو أطع أو أخلص دينك لله {قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ العالمين} أي أخلصت أو انقدت.
{ووصى} {وأوصى} مدني وشامي. {بِهَا} بالملة أو بالكلمة وهي أسلمت لرب العالمين {إبراهيم بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ} هو معطوف على إبراهيم داخل في حكمه والمعنى ووصى بها يعقوب بنيه أيضاً {يَا بَنِىَّ} على إضمار القول: {إِنَّ الله اصطفى لَكُمُ الدين} أي أعطاكم الدين الذي هو صفوة الأديان وهو دين الإسلام ووفقكم للأخذ به {فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} فلا يكن موتكم إلا على حال كونكم ثابتين على الإسلام، فالنهي في الحقيقة عن كونهم على خلاف حال الإسلام إذا ماتوا كقولك (لا تصلّ إلا وأنت خاشع) فلا تنهاه عن الصلاة ولكن عن ترك الخشوع في صلاته.
{أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الموت} أم منقطعة ومعنى الهمزة فيها الإنكار. والشهداء جمع شهيد بمعنى الحاضر أي ما كنتم حاضرين يعقوب عليه السلام إذ حضره الموت أي حين احتضر، والخطاب للمؤمنين بمعنى ما شهدتم ذلك وإنما حصل لكم العلم به من طريق الوحي. أو متصله ويقدر قبلها محذوف والخطاب لليهود لأنهم كانوا يقولون ما مات نبي إلا على اليهودية كأنه قيل: أتدّعون على الأنبياء اليهودية أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت {إِذْ قَالَ} بدل من {إذ} الأولى والعامل فيهما شهداء أو ظرف ل {حضر} {لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ} ما استفهام في محل النصب ب {تعبدون} أي أيّ شيء تبعدون؟ و(ما) عام في كل شيء أو هو سؤال عن صفة المعبود كما تقول (ما زيد) تريد أفقيه أم طبيب. {مِن بَعْدِى} من بعد موتي. {قَالُواْ نَعْبُدُ إلهك وإله آبَائِكَ} أعيد ذكر الإله لئلا يعطف على الضمير المجرور بدون إعادة الجار. {إبراهيم وإسماعيل وإسحاق} عطف بيان لآبائك، وجعل إسماعيل من جملة آبائه وهو عمه لأن العم أب قال عليه السلام في العباس: «هذا بقية آبائي». {إلها واحدا} بدل من إله آبائك كقوله: {بالناصية * نَاصِيَةٍ كاذبة} [العلق: 15، 16] أو نصب على الاختصاص أي نريد بإله آبائك إلهاً واحداً. {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} حال من فاعل {نعبد} أو جملة معطوفة على {نعبد} أو جملة اعتراضية مؤكدة. {تِلْكَ} إشارة إلى الأمة المذكورة التي هي إبراهيم ويعقوب وبنوهما الموحدون {أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ} مضت {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُم} أي إن أحداً لا ينفعه كسب غيره متقدماً كان أو متأخراً، فكما أن أولئك لا ينفعهم إلا ما اكتسبوا فكذلك أنتم لا ينفعكم إلا ما اكتسبتم وذلك لافتخارهم بآبائهم {وَلاَ تُسْئَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} ولا تؤاخذون بسيئاتهم.
{وَقَالُواْ كُونُواْ هُودًا أَوْ نصارى} أي قالت اليهود كونوا هوداً وقالت النصارى كونوا نصارى. وجزم {تَهْتَدُواْ} لأنه جواب الأمر. {قُلْ بَلْ مِلَّةَ إبراهيم} بل نتبع ملة إبراهيم {حَنِيفاً} حال من المضاف إليه نحو (رأيت وجه هند قائمة). والحنيف المائل عن كل دين باطل إلى دين الحق. {وَمَا كَانَ مِنَ المشركين} تعريض بأهل الكتاب وغيرهم لأن كلاًّ منهم يدعي اتباع ملة إبراهيم وهو على الشرك. {قُولُواْ} هذا خطاب للمؤمنين أو للكافرين أي قولوا لتكونوا على الحق وإلا فأنتم على الباطل {آمَنَّا بالله وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا} أي القرآن {وَمَا أُنزِلَ إِلَى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق وَيَعْقُوبَ والأسباط} السبط الحافد وكان الحسن والحسين سبطي رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأسباط حفدة يعقوب ذراري أبنائه الاثني عشر. ويعدى {أنزل} ب {إلى} و{على} فلذا ورد هنا ب {إلى} وفي آل عمران ب{على} {وَمَا أُوتِىَ موسى وعيسى وَمَا أُوتِيَ النبيون مِن رَّبّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ} أي لا نؤمن ببعض ونكفر ببعض كما فعلت اليهود والنصارى. وأحد في معنى الجماعة ولذا صح دخول بين عليه. {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} لله مخلصون {فَإِنْ ءَامَنُواْ بِمِثْلِ مَا ءَامَنتُمْ بِهِ فَقَدِ اهتدوا} ظاهر الآية مشكل لأنه يوجب أن يكون لله تعالى مثل وتعالى عن ذلك. فقيل: الباء زائدة و(مثل) صفة مصدر محذوف تقديره فإن آمنوا إيماناً مثل إيمانكم والهاء يعود إلى الله عز وجل، وزيادة الباء غير عزيز قال الله تعالى: {والذين كَسَبُواْ السيئات جَزَاء سَيّئَةٍ بِمِثْلِهَا} [يونس: 27] والتقدير جزاء سيئة مثلها كقوله في الآية الأخرى: {وَجَزَاء سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا} [الشورى: 40] وقيل: المثل زيادة أي فإن آمنوا بما آمنتم به يؤيده قراءة ابن مسعود رضي الله عنه: {بما آمنتم به}. و{ما} بمعنى (الذي) بدليل قراءة أبي {بالذي آمنتم به}. وقيل: الباء للاستعانة كقولك (كتبت بالقلم) أي فإن دخلوا في الإيمان بشهادة مثل شهادتكم التي آمنتم بها {وإن تَوَلَّوْا} عما تقولون لهم ولم ينصفوا أو إن تولوا عن الشهادة والدخول في الإيمان بها {فإنّما هم في شقاقٍ} أي فما هم إلا في خلاف وعداوة وليسوا من طلب الحق في شيء {فَسَيَكْفِيكَهُمُ الله} ضمان من الله لإظهار رسوله عليهم وقد أنجز وعده بقتل بعضهم وإجلاء بعضهم، ومعنى السين أن ذلك كائن لا محالة وإن تأخر إلى حين. {وَهُوَ السميع} لما ينطقون به {العليم} بما يضمرون من الحسد والغل وهو معاقبهم عليه فهو وعيد لهم، أو وعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم أي يسمع ما تدعو به ويعلم نيتك وما تريده من إظهار دين الحق وهو مستجيب لك وموصلك إلى مرادك.